بين الأمن وحقوق الإنسان.. "مرسوم بوندي" يُهدد مستقبل الملاذ الآمن في واشنطن
بين الأمن وحقوق الإنسان.. "مرسوم بوندي" يُهدد مستقبل الملاذ الآمن في واشنطن
دخلت العاصمة الأمريكية واشنطن في خضمّ جدل متصاعد بعد قرار المدعية العامة الأمريكية، بام بوندي، إلغاء أوامر شرطة العاصمة التي كانت تحدّ من التعاون مع سلطات الهجرة الفيدرالية، وجاء القرار في أعقاب مساعٍ مباشرة من الرئيس دونالد ترامب لتحويل شرطة العاصمة إلى قوة ذات طابع فيدرالي، بحجة مكافحة ما وصفه بتصاعد معدلات الجريمة.
بحسب تقرير لصحيفة "واشنطن بوست"، فقد انتشرت مقاطع فيديو وصور تُظهر حضوراً مكثفاً لعناصر إنفاذ القانون والحرس الوطني في العاصمة، ما أثار القلق حتى في أحياء كانت تُعرف عادة بالهدوء والاستقرار، حيث وجد مهاجرون، عمّال بناء، وحتى رياضيون هواة أنفسهم فجأة في قلب مداهمات واعتقالات جماعية، استهدفت عشرات الأشخاص خلال أسبوع واحد.
وأظهرت الأرقام الرسمية أن 44 من أصل 78 اعتقالاً جرى تنفيذها خلال يومين فقط، كانت مرتبطة مباشرة بملفات الهجرة،جعل هذا التداخل بين "مكافحة الجريمة" و"ملاحقة المهاجرين" جماعات المناصرة الحقوقية تحذر من خلط الأوراق، وتعتبر أن الهدف الأساسي هو إخضاع المهاجرين لرقابة أمنية مشددة.
وقالت نائبة رئيس المركز الوطني لقانون الهجرة، راها والا، إن الخطوة "ستجعل العاصمة أقل أماناً، لا أكثر أماناً"، موضحة أن المهاجرين والمواطنين على حد سواء قد يمتنعون عن التعاون مع الشرطة خوفاً من الترحيل أو الاعتقال.
إنهاء سياسات الملاذ
من جانبها، قدّمت صحيفة "نيويورك بوست" روءية تُظهر موقف بوندي على أنه محاولة لإعادة فرض سيطرة اتحادية صارمة على العاصمة، فقد صرّحت في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" بأن "واشنطن العاصمة لن تبقى مدينة ملاذ"، متهمةً مسؤولي المدينة بمحاولة "حماية المجرمين الأجانب".
وبموجب توجيهها الجديد، أُلغي العمل بعدة أوامر سابقة لرئيسة شرطة العاصمة باميلا سميث، والتي كانت تمنع مشاركة بيانات المهاجرين مع سلطات الهجرة، أو إبلاغها بمواعيد إطلاق سراح المحتجزين، أو السماح باستجوابهم من قبل ضباط فيدراليين داخل مراكز الشرطة.
وبحسب الأمر، سيُصبح لشرطة العاصمة واجب إبلاغ دائرة الهجرة والجمارك (ICE) عن أي شخص يُشتبه بوجوده غير القانوني في الولايات المتحدة، فضلاً عن تمكينها من احتجاز المهاجرين وتسليمهم مباشرة إلى السلطات الفيدرالية.
مقاومة قانونية وسياسية
قوبل مرسوم بوندي بمعارضة شديدة من قيادة المدينة، فقد أكدت عمدة العاصمة الديمقراطية، موريل باوزر، أن التوجيه "غير قانوني"، مستندةً إلى رأي قانوني صادر عن المدعي العام للمنطقة برايان شوالب.
وبحسب المذكرة التي نشرتها "نيويورك بوست"، شدد شوالب على أن قانون الحكم الذاتي لعام 1973 لا يخول الرئيس أو من ينوب عنه "إقالة أو استبدال رئيس الشرطة، أو تغيير التسلسل القيادي، أو تحديد أولويات إنفاذ القانون المحلية"، وأضاف أن شرطة العاصمة "ملزمة باتباع أوامر قادتها المحليين فقط، وليس أوامر المدعية العامة المعيّنة اتحادياً".
لكن التطور الأخطر جاء من قاعة المحكمة، حيث أشارت القاضية آنا سي. رييس إلى أن ترامب "قد يملك فعلاً سلطة" الاستعانة بضباط شرطة العاصمة في إنفاذ قوانين الهجرة، ما يفتح الباب أمام معركة قانونية معقدة لم تُحسم بعد.
قصص من الشارع
على أرض الواقع، انعكست هذه السياسات مباشرة على حياة المهاجرين، فبحسب واشنطن بوست، نام بعض عمّال صالونات الحلاقة داخل محالهم خشية المداهمات الليلية، في حين فرّ عمال بناء من مواقعهم بعد اعتقال زملائهم.
أما يوناتان كولميناريز، وهو طالب اللجوء الفنزويلي وسائق توصيل، فقد سرد كيف أوقفه ضباط في محطة وقود وطلبوا منه أوراق عمله، قبل أن يخلوا سبيله بعد التحقق من وضعه القانوني.
قال كولميناريز إنه كان يرتجف من الخوف، لكنه مع ذلك عبّر عن دعمه لفكرة "مدينة آمنة"، محذراً في الوقت نفسه من استغلال ملف الجريمة لتبرير ملاحقة المهاجرين.
مشاهدات لعناصر الهجرة
وفي حي ماونت بليزانت، أفاد السكان بمشاهدات متكررة لعناصر الهجرة، وصوّروا مقاطع لاعتقالات علنية، حتى الأطفال طرحوا أسئلة بريئة حول سبب تمزيق لافتات كتب عليها "ممنوع الترحيل"، ما كشف حجم الصدمة الاجتماعية التي تخلفها السياسات الجديدة.
يرى مؤيدو بوندي، مثل مايكل بيكيشا من الحزب الجمهوري في واشنطن، أن القرار خطوة لحماية الأرواح، فقد أشار إلى تمثيله عائلات فقدت أحباءها بسبب جرائم ارتكبها مهاجرون غير نظاميين، معتبراً أن "أي حملة لإبعاد المجرمين من الشوارع هي أمر مرحب به".
في المقابل، اعتبر نائب رئيس اتحاد عمال الخدمات الدولي، خايمي كونتريراس، أن ما يجري "لا يتعلق بالجريمة بل بالكراهية وإثارة الرعب في مجتمعنا المهاجر".
وأكدت الناشطة آمي فيشر أن خطها الساخن تلقى أكثر من 500 مكالمة خلال أسبوع واحد للإبلاغ عن مداهمات وحضور فيدرالي في الأحياء.
استقلالية شرطة العاصمة
إلى جانب الجدل حول المهاجرين، أعاد مرسوم بوندي طرح سؤال أكبر يتعلق بمدى استقلالية شرطة العاصمة، فالتوجيه منح مدير وكالة مكافحة المخدرات، تيري كول، صلاحيات واسعة بصفته "مفوض شرطة الطوارئ"، مع إلزام قادة الشرطة المحليين بالحصول على موافقته قبل إصدار أي توجيه.
وهذا يعني عملياً أن التسلسل القيادي بات يمر عبر بوندي مباشرةً، التي بدورها ترفع تقاريرها إلى الرئيس ترامب، في خطوة وُصفت من قبل معارضيها بأنها "تجريد للعاصمة من حكمها الذاتي المحدود أصلاً".
استطلاعات الرأي
تُظهر الأرقام أن الانقسام الشعبي عميق حول هذه القضية، فبحسب استطلاع لـواشنطن بوست، أيّد 37% من الأمريكيين، و75% من ناخبي ترامب، نهج الرئيس في إنفاذ قوانين الهجرة، لكن في الوقت ذاته، رأى قطاع واسع أن نشر الجيش والشرطة الفيدرالية لقمع المتظاهرين والمهاجرين مبالغ فيه ويقوّض مبادئ الديمقراطية.
بين مواقف سياسية متضادة، ومخاوف يومية يعيشها المهاجرون، وتدخل فيدرالي غير مسبوق في عمل الشرطة المحلية، تبدو واشنطن العاصمة أمام اختبار تاريخي، هل ستظل "مدينة ملاذ" تسعى لحماية حقوق المهاجرين؟ أم ستتحول إلى نموذج لتشديد القبضة الأمنية الفيدرالية باسم مكافحة الجريمة؟